ذكريات " دقاقة " ......صدى الماضى !
- Adnan Zahir
- 10 يوليو 2024
- 4 دقائق قراءة
مطعم " ترنيتي " بالموردة ..... و " الطبلة " النحاسية !!
حدث ذلك في آواخر سبعينات القرن الماضي ، عندما لم يكن السفاح نميرى قد أصيب بعد بلوثة الايمان العارضة للإسلام ، و التي سوف تعمل لاحقا على خلق كل أزمات السودان المستقبلية. بعد الثامنة مساء كانت حدائق النيل في العاصمة المثلثة تصدح في صوت كورالى هادئ يدقدق المشاعر بأغنية ( الأمان....... الأمان للشاعر محمد بشير عتيق ) ، تعمل على هدهدة الساكنين بقرب ضفاف النيل و تقودهم الى نوم عميق خاصة نحن ساكني أمدرمان فريق " ريد " بالموردة.
كنت و ابن خالتي الذى يعيش حالياً في الولايات المتحدة، كثيراً ما نقضى الأمسيات في تلك الأيام مترافقين و نزجى الوقت في أماكن مختارة للمؤانسة و زيارات لبعض الأصدقاء، كما كنا ندمن العشاء في سوق الموردة الذى يظل فاتحاً أبوابه لوقت متأخر نسبيا من الليل.
يضم سوق الموردة كثير من المطاعم المتخصصة في صنع و تقديم الطعام ، و كل من ارتاده يجد ما يفضله من الأكل. كان السوق مزيجا من الماضوية الحنينة المختلطة بشيء من الحداثة !
كان هنالك مطعم الشايقى صاحب الفول " المظبط " الذى يستهوى كثير من ساكني المنطقة، شواية ( حيدر ) الحديثة بأطعمتها " الأفرنجية " خاصة الدجاج المشوي.....السلطات ، الجبن بأنواعه مع الزيتون و " المش "........باختصار كانت تحتوى على كل ما يحتاجه ذوى الأمزجة الليلية الراقية !....كان هنالك أيضا مطعم بالغرب من " شواية " حيدر " ميت الظل " و لا يعمل الا بعد انتهاء عمل المطاعم الأخرى، لذلك كان يبالغ في ابتزاز مرتاديه انتقاما، كنا أحيانا نتعشى عنده مضطرين و لاعنين في وقت واحد !
وسط ذلك العالم المتلاطم المليء بأمكنة الأطعمة كان مطعم ( ترنيتى ) يقف شامخا ( متأبط مسدسيه )، في الجزء الأخير من السوق و المواجه لشارع " زلط " الموردة، البوستة ، " ملجة " أو سوق السمك الحالي ، و حديقة الموردة من جهة الشرق. كان موقعا استراتيجيا خطيرا وبلغة " السماكة " مضرب معتبر و لا شبيه له، لكل طالب عشاء حتى من رواد الحدائق الذين يفضلون تناول عشاءهم فيه.
اسم المطعم مستمد من أحد أفلام الكابوى ( السباجتي ) التي سادت في ستينات القرن الماضي مثل " ديجانجو " ، " سرتانا " و " ترنيتى ". و أشهر أفلام تلك الحقبة هى ( عودة ديجانجو ) ، ( سرتانا لا يرحم ، ( من أجل حفنة دولارات ).....الخ ، و من كثرة اعجاب الناس بتلك الأفلام فقد أطلقوا اسماء أبطالها على ( اللوارى السفرية ) ، ( المطاعم ) ، عربات الكارو و حتى ( ( الأنادى و الخانات ) !!
مطعم ترينتى كان في السابق " بار " لشخص يدعى حليم و هو شخص خفيف الظل و سمى البار باسمه و أشتهر باسم ( بار حليم ). عند بداية عمل حليم التجاري هو فقد أنشاءه لمكتبة و لكنها فشلت في الأستمرار، فقام بفتح البار بديلا عنها و هو صاحب المقولة الساخرة ( جينا نبيع الأدب ما نفع.... فاصبحنا نبيع قلة الأدب ) !! ،.......... و قد ورد أسم البار في محاكمة " كبس الجبة "، التي أصبحت سابقة تدرس في كليات القانون.
تقول الحكاوى المتداولة في الحى ان " كبس الجبة " و صديقه " رأس الميت " و قبل ذهابهما لحفل العم " خاطر " ليلة الحادث ،كانا يقومان بعملهما في بار حليم، و هو الحراسة و منع مرتاديه من كافة التفلتات التي يمكن أن تحدث، و هو عمل شبيه بما يقوم به ( الحارس - البودى غارد ) أو ( الباونسر ) في أمريكا و كندا في هذا الزمن.
فى ذلك اليوم ذهبنا، أنا و أبن خالتي لتناول طعام العشاء في مطعم ترينتى، بالرغم من إننا أحيانا نأخذ العشاء من مطعم حيدر لتناوله في المنزل. كان مطعم ترينتى على وشك " التشطيب " و قفل أبوابه. طلبنا عشاءاً و جلسنا على مائدة قريبة من " قدرة " الفول نراقب صاحب مطعم ترينتى ، فقد كنا معجبين بالطريقة البهلوانية التي يدخل بها الكمشة داخل القدرة لإخراج الفول.
عندما أخرج الكمشة من القدرة كان ضمن الفول البسيط الذى تحمله طبلة الدكان النحاسية الضخمة، صعق هو و تجمدنا نحن !ّ كانت الطبلة تغلى مع ذلك الفول لفترة أربع و عشرين ساعة و ذلك زمن نجاضه !
حاول الاعتذار و لكن " تخارجنا " دون أن ننطق بكلمة.
صباح اليوم الثاني .....صحوة مبكراً و تابعت أخبار الإذاعة والصحف ..... و بعد ذهابي الى المكتب أخبار البلاغات في أقسام الشرطة المختلفة، بواسطة الزملاء الذين يرتادونها للعمل الجنائي.....لم يكن هنالك أي بلاغ عن شخص توفى مسموما ، أو هنالك بلاغ تسمم جماعي ذو شبهة جنائية !
أجزم بأن معظم سكان امدرمان في نصفها الجنوبي، قد تناول عشاءه تلك الليلة من تريتتى ، و من وجبة الفول " المعتق " بالطبلة الإنجليزية النحاسية التي يبلغ وزنها الثلاث كيلوهات !!
عدنان زاهر
يوليو 2024
معانى
1- كمشه : مغرفة للطعام و هي كلمة فارسية تركية و تسمى عند المصريين ( كبشه ).
2- انادى : جمع انداية و هي مكان مخصص لشرب الخمور البلدية.
3- خانات : جمع خانه و هي المكان الذى يبيع فيه مخدر " البنقو ".
4- طبله : قفل.
5- قدرة : اناء يطبخ فيه.
6- رأس الميت : من سكان الموردة ضعيف البنية و لكنه أشتهر بضربة رأس ترمى الثور أرضا، كان مهابا من الجميع.
7- خاطر: هو صاحب المنزل المقام به الحفل، و الذى أطلق النار فيه على ( كبسه الجبة ).
Comments