ذكريات " دقاقة " – بيت الحلة الفوق أو بيت جدى مستودع الحكمة !
- Adnan Zahir
- 20 مارس 2023
- 6 دقيقة قراءة
كنت أفكر على الدوام و أنا صغير لماذا نطلق على " حلة " جدى لأمى أسم " الحلة الفوق "، عرفت لاحقا ان القرى و " الحلال " خارج العاصمة، كانت تقام فى العادة قرب النيل باعتباره شريان الحياة و مصدرا مهما للشرب و الزراعة .عندما تكاثر أصحاب تلك القرى و ازدادت أعدادهم، صار بعض الأهالى يقيمون " حلالهم " بعيدا من النيل....فأطلق الناس على الحلة البعيدة من النيل اسم ( الحلة الفوق )، و الحلة القديمة التى تجاور النيل " الحلة التحت " و تسرب المصطلح مع هجرة القبائل الى أمدرمان و من ثم تداخل مع ثقافة الدولة الناشئة........كان منزل جدى نسبيا بعيدا عن النيل.
بيت جدى يقع فى مدخل حي " بانت شرق " من الناحية الشمالية و هو ليس بعيدا عن " خور أبوعنجة "،عند فيضان النيل و إمتلأ خور ابوعنجة، كانت مياه الخور تصل الى بعد مئتين متر من المنزل. أتذكر فى خلال ذلك الموسم وعند قيامنا بزيارة بيت الحلة الفوق، نعبر اليه عن طريق المراكب و كان شئيا مفرحا و مبهجا لنا نحن الأطفال.
تبلغ مساحة بيت الحله الفوق حوالى آلفين متر أو أقل، و مبنى من الطين و مطلى " بالزبالة " أو روث البهائم ،كما اعتاد الناس على ذلك فى منتصف خمسينات القرن الماضى.نصف المنزل من الناحية الشمالية لم يكن مشيدا و عرفت ان خندقا قد حفر به ابان الحرب العالمية الثانية لاتقاء و تفادى قنابل دول المحور.
السودان كان مستعمرة بريطانية فى زمن الحرب العالمية الثانية، التى نشبت بين دول المحور و هى ( المانيا،ايطاليا و اليابان ) من جانب، و دول الحلفاء و هم (بريطانيا، الولايات المتحدة و الاتحاد السوفيتى " روسيا حاليا " ) من الجانب الآخر، و لذى كان السودان مستهدفا باعتباره مستعمرة بريطانيا و موقعا استراتيجيا للأنجليز.
و حسب الحكاوى التى حفظتها الذاكرة الشعبية عن تلك الفترة فهى تذكر و تقول....... هاجمت العاصمة طائرة من دول المحور مرة واحدة فقط ، و أفرغت جزء من حمولتها فى الفضاء الممتد بين مدينة أم بدة وحى العرضة فى أمدرمان و كانت المنطقة خلاءا، و قتل فى الأنفجار حمارا. و ألفت أغنية شعبية توثق لذلك الأنفجار وجدت رواجا بين الناس يقول مطلعها ( جات طياره تحوم......كتلت حمار كلتوم )....كلتوم كانت بائعة للبن.
الجزء المشيد من المنزل و هو الجزء الجنوبى، كان يحتوى على ديوان متواضع لاستقبال الضيوف مفصول عن الجزء الداخلى و أمامه شجرة " لالوب " ضخمة تظلل بفروعها الكثيفة الفسحة التى امام الصالون. هذه اللالوبة لها ثمار حلوة المذاق و تأتيها فى الخريف طيور السمبر أو ( كراجوية جيابة المطر ) كما يطلق عليها فى غرب السودان، للسكن وولادة صغارها. أما فى الحوش الداخلى و من ناحية الغرب كانتا هنالك غرفتان يسكن احداهما خالى حامد و الأخرى حبوبة آمنه مع ابنتها حوا.
من الناحية الشرقية فقد شيد " تكل " أو مطبخ، بالقرب منها غرفة يسكن بها شخص غامض يدعى " دبو " يقوم ببعض الأعمال المنزلية و كان يشكل لنا لغزا . لم نكن نجرأ على السؤال عنه و قد خمنا انه من منطقتهم فى غرب السودان و سمحموا له بالسكن معهما. فى ذلك الزمن كان كثير من الأسر الأمدرمانية تستضيف الأشخاص من مناطقهم للسكن معهم.
من ناحية الشمال، فتوجد غرفتين واحدة كبيرة و الأخري صغيرة أو " قاطوع " كما يطلقون عليه و هو المخزن الصغير، كل هذه الغرف عالية السقف و كانت بها طاقات ( و الطاقة نافذة صغيرة و هى كلمة مغربية ) لدخول الشمس ، ما عدا الديوان الذى كان به شباكين.
المساحة الداخلية المشيدة، كان لها باب " سنط " أو خشب ضخم يفتح فى الحوش الغير مشيد و الذى يوجد به مرحاض أو " أدبخانه " و باب حديد يفتح على الشارع، الحمام كان يقع من الناحية الغربية خلف الديوان مباشرة. كل فسحات المنزل كانت من التراب و الحصى و بهذه المناسبة لا بد من ذكر رواية طريفة ، بيت جدى كان مشهورا بنظافته للدرجة التى كان خالتى و خالى يقومون ب " غربلة " تراب الحوش لأزالة الأوساخ و الحصى منه !!!!
كان بالمخزن الكثير من الأشياء الجميلة المستجلبة من مصر، أطقم الاكل الفخمة و الصوانى الضخمة ، أدوات الزينة ، المجلات المصرية بكل أنواعها و تخصصاتها ، " فنوغراف " ضخم مع اسطونات غناء لفنانين سودانيين و مصريين ، وأشياء لم أرهها أو أسمع بها من قبل، لكن ما كان يثير اهتمامى هى المجلات و صورها الملونه الزاهية و " البِلى " متعدد الألوان.
أتذكر حبوبه " آمنه " كانت تجبرنا عند الحضور لتقبيل يدها، و كنا مع شقيقتى نرفض ذلك الطقس و نتمرد عليه، و كان نصيبنا على الدوام الضرب على ذلك التمرد، حتى زهجت حبوبتى و أصابها الممل فتركتنا ، يبدو الى ان تلك العادة مصرية و قد تسربت الى ثقافتنا.
المنزل بشكله و بما يحتويه كأنما شيد خصيصا للعب الأطفال، كنا نلعب البلى و نستخدم نفس البلى للعب " السيجة " ، " الهودنا " و ( صفرجة )1 . كنا ناكل ثمار اللالوب المتساقط و نستخدم عصا " قناية " طويلة لانزال الثمار غير الساقطة. كنا نلعب كرة القدم فى الجزء غير المشيد من المنزل كما كنا نشاكس باستمرار طير السمبر و صغاره المولودة حديثا، قبل طيرانها فى رحلة العودة فى هجرتها الثانية الى موطنها2
الطعام فى بيت الحله الفوق كان صحى بامتياز، فهو لا يحتوى على الدهون الكثيرة كما هى عادة الطعام عند معظم السودانين فى ذلك الوقت، كانت المائدة فى معظم الأوقات و فى وجبة " الغداء " تحتوى على شوربة لحم الضان زكية الرائحة مع لحمة محمرة و سلطات، و فى بعض الأحيان ملاح مع تحلية فى النهاية، من حلو أو علبة " فُرت " التى كانت متوفرة فى الدكاكين و من جميع الفواكه المتنوعة ........أكلهم كان طاعما و شهيا.
هنالك فى " بيت الحلة الفوق " شيئا ظل على الدوام عالقا بذاكرتى لا يفارقه، و ذلك سخونة المياه فى الصيف المتدفقة من المواسير و كأنها مغلية فى فرن نارى . كان لا يمكن الأستحمام بالمياه من " الدش " أو الماسورة مباشرة ، ما لم تترك فى جردل فترة من الزمن لتبرد، كما فى الامكان عمل شاى من مياه الماسورة مباشرة دون حاجة لغليه على النار. عرفت عندما أصبحت كبيرا ان السبب فى سخونة مياه بيت الحلة الفوق، يرجع الى المواسير المصنوعة من الحديد و السطحية غير المدفونة فى باطن الأرض فى درجة حرارة تبلغ الخمسين درجة فهرنهايت فوق الصفر فى عز الصيف.
خالى " حامد " كان شخصية لطيفة..... بشوشا و متسامحا، و محبا للنظافة لدرجة الهوس، فهو يتحرك داخل الحوش باستمرار و على أهبة الاستعداد لازالة أى وساخة من على الأرض حتى و لو كانت قشة صغيرة !.....يحب الأطلاع و القراءة و تعلمت من كتبه حب الشعر والقراءة...... تعرفت على نزار قبانى و صلاح عبد الصبور، نازك الملائكة ، جبران خليل جبران و غيرهم. عمل موظفا فى الحكومة حتى وصل درجة الباشكاتب كما كان مرجعا فى الخدمة المدنية و قوانينها، زاول فى وقت فراغه تحكيم كرة القدم، و كان يعاملنى معاملة خاصة لأنى كنت لاعب كرة قدم ممتاز.
من الطرائف المتعلقة ببيت الحلة الفوق.....كنا أنا و شقيقتى عندما نذهب مع والدتى " يمه " أحيانا للزيارة و بعد " المقيل " و تأهب أمى للرجوع الى منزلنا، كنت وشقيقتى نصر اصرارا عجيبا على عدم العودة و المطالبة بالمبيت، و كانت " يمه " تتركنا مرغمة. بعد ذهاب والدتى و عندما تظلم " الواطة " نبدأ بالصياح مطالبين بالرجوع للبيت، مما يجعل خالى حامد مضطرا لايقاف ذلك الصراخ و " النبيح " ، لحملنا و أرجاعنا الى منزلنا. بعد تكرار تلك المسرحية عدة مرات لم يعد يسمح لنا بالمبيت اطلاقا.
اتخيل الآن فداحة ما كنا نفعله، و بجعل خالى خالى حامد يحملنا ليلا و يعبر بنا خور ابوعنجه الملئ ب ( الربابيط ) و قطاع الطرق فى ذلك الزمن، ثم الرجوع مرة أخرى لمنزله. توصلت مع شقيقتى لاحقا ان الباعث لذلك السلوك المخجل كان الخوف ، فى ذلك الزمن لم تكن الأنارة قد دخلت المنازل، فقد كانت تستخدم " الفوانيس " فقط. كان الظلام دامسا فى " بيت الحله الفوق " او كما كان يخيل لنا .......القطط السوداء ضخمة الجسم و هى تتصايح و تجرى داخل الحوش، مختلطة بصوت فروع شجرة " اللالوبة " الزاعقة، تجعلنا نحس بالذعر و الخوف و من ثم الصياح !!
بيت جدى الضابط و ابناءه الأفندية و اسلوب حياتهم المرفهة و معاشهم فى ذلك الزمن، يعكس بجدارة انتماءهم للطبقة الوسطى و بامتياز، مع ذلك كان علاقتهم ودودة وواصلة مع جيرانهم . أسرة جدى مسلمة ايمانا و سلوكا، كما كان التدين جزءا من الحياة فى المنزل....كان التدين امتدادا لتدين أهلهم الفور.
بيت جدى أو " بيت الحلة الفوق " هو مرآة لعصر ماهل....غنى بالتجارب و المعرفة....انه مستودع الحكمة ، نستمد منه شرعية وجودنا و استمرارنا فى الحياة.
2- تأتى طيور السمبر فى الخريف الى السودان من كينيا و تنزانيا

تعليقات