ظواهر غنائية جديدة و ( باجاتا ) جمهورية الدومنيكان !
- Adnan Zahir
- 22 أغسطس
- 5 دقيقة قراءة
طقوس النوم و القلق ليلا، فرضت علئ أن أصحوا وأتجول متمهلا بين مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة خاصة الفيسبوك. ذلك التجوال القلق، دفعني على أن اتعرف على أنواع غناء لم أتشرف بسماعه من قبل، و فنانات و فنانين يطلق عليهم ( ناس ) التواصل الاجتماعي استخفافا، لقب ( قونات ) و ( ركشات ) !
حاولت أن أستعين ب ( د عون الشريف قاسم ، " ديب سيك " و " ج ب تي " ) أي الذكاء الاصطناعي لمعرفة معنى ( قونه ) فلم أجد لها معنى ، أما الركشة فهي تعنى الموتورسايكل ذو الثلاث عجلات الذى ادخله ( نظام الإنقاذ ) بالعافية ضمن وسائل حركة المواصلات في العاصمة . عندما فشلت في التوصل للمعنى " بالظبط و الربط "، اكتفيت و رضيت بالمعنى الفضفاض الذى يقصده " العامة " عند الإشارة الى الأثنين ذكرا و أنثى ، و هو - عدم الرضا - عن هؤلاء الفنانين و الفنانات و عما يقدمون من عروض !
أدهشني حقيقة ما يقدمه هؤلاء الفنانين و الفنانات من و صلات غنائية، و لم تكن الدهشة ليست قاصرة فقط على الموسيقى و لكن شملت أيضا الكلمات الشعرية ( اذا افترضنا انها شعرا ) ، و الرقص المصاحب له. بالطبع هؤلاء ( الغنايين ) ليسوا جميعهم كتلة صماء واحدة، و لكن يختلفون و يتباينون ، هنالك منهم المجتهد الذى يحاول أن يقدم فنا مختلفا يتوافق و عصره، و منهم من يقدم غناء ذو كلمات ركيكة و موسيقى هي اقل ما توصف به انها ضجيج فقط ، لكن ما استفزني حقيقة الكلمات السوقية و البذيئة التي تتعرض للآخرين ، و الرقص ذو الإيحاء المقصود به اثارة الغرائز الجنسية فقط ، و ليس فن الرقص !
دفعتني هذه الظاهرة الى محاولة الغوص و البحث قليلا فيها و عن مسبباتها، و عدم الارتكان للإجابة الجاهزة و المُتكأ السهل المريح ،و هي ان السبب يكمن في ( الحرب الدائرة اليوم ) ! .... و لا ينكر أحد بالطبع أن الحرب هي واحدة من أسباب تأجيج هذه الظاهرة، و لكن في تقديري أن جذور هذه الظاهرة تمتد بعيدا الى اسباب سياسية، اجتماعية و اقتصادية معا.
لاحظت أيضا ان تلك الأغاني تظهر عادة و تطل برأسها في السودان أيام حكم الديكتاتوريات العسكرية ، كما انها تظهر في الاحياء الشعبية المهمشة والفقيرة و في اطراف المدن ، بعيدا عن مراكز السلطة القابضة، ينطبق ذلك على الخرطوم أو مدن و قرى السودان الكبيرة. كما لاحظت أيضا ان المغنين يحملون أسماء مناطقهم أو احياءهم أو لقب يطابق طريقتهم في الأداء، الغناء أو الرقص.
المدهش أن هؤلاء المغنين لهم شعراؤهم و كلمات الشعر التي تتوافق و ذوقهم و التعبير عن وجدانهم أو رفضهم و مواقفهم تجاه المجتمع و السلطة. و قد ظهرت أغاني شبيهة لتلك الأغاني أيام حكم الجنرال عبود ، و كذلك في عهد نميري بعد صدور قوانين سبتمبر التي بطشت بالشعب السوداني و نكلت به، كما ظهرت و " تقعدت " أيام حكم الأنفاذ ب ( قانون النظام العام ) الذى وظفته السلطة للبطش بمن يغنون تلك الأغاني في الحفلات العامة أو مداهمة الحفلات الخاصة.
تم ذلك أيام حكمها الأول و عندما لم تنجح في إيقاف مد تلك الأغنيات، حاولت اطلاق العنان لها و لكن حصرها في مناطقها التي نبعت منها، مع تبنى لبعض المغنين الذين يؤدونها، في محاولة للسيطرة عليهم و توجيه المد لمصلحتها ،و محاولات إلهاء الشعب السوداني و شغلهم عن مسائل فشل حكمهم و فسادهم الذى ازكم الانوف .
لكن رغم محاولات ذلك الاحتواء فقد انتشرت تلك الأغاني وسط قطاعات كبيره من الشباب ، خاصة موسيقى و غناء ( الزنق ) و روادها الأوائل مثل ( أيمن الربع )، ( يحي المك ) و ( النجيري ) لاحقا، و ابتدعت مفردات جديدة مثل ( المغارز و الكتمة ) كما شارك هؤلاء الشباب في ثورة ديسمبر 2018 و أدخل أيمن الربع في موسيقاه " صولة " شعار ( تسقط بس ) !
لا أدرى فقد تذكرت فجأة و أنا أحاول تفكيك ظاهرة الغناء السوداني الطاغي اليوم على الساحة الفنية، موسيقى و غناء ( الباجاتا ) في جمهورية الدومنيكان و الظروف التي دفعت بها الى التشكل حتى وصول تلك الموسيقى و الغناء الى العالمية. و ما أود ايراده ليس اسقاطا ميكانيكيا للتاريخ و التجربة، لكن المقصود المقارنة و الاستفادة من التجربة في تفسير بعض الظواهر.
موسيقى ( الباجاتا ) تشكلت و ظهرت في الأحياء الشعبية الفقيرة المهمشة، في القرى و المدن زمن حكم ديكتاتور الدومنيكان ( روفائيل تروخيو ) الذى حكم لمدة ثلاثين عاما بالبندقية ، ( للمفارقة أن فترة حكم الديكتاتور عمر البشير كانت ثلاثين عاما ) و اتسم حكمه بنفس القدر من العنف، القتل و الدماء و تكميم الافواه .
لذلك كانت اغنية ( الباجاتا ) التي نشأت في ستينيات القرن الماضي ابان ( تروخيو ) و كلماتها، تعبيرا عن ذلك الحزن الدفين ، الخيبات و الآمال العريضة ، الرفض، الحب ، الشوق، الفراق و الحميمة و الفشل الذى يصاحبهما ، الحرية و التمرد، كانت كلماتها مباشره لما تجيش به النفس غير مزركشه او مصقولة مع رقص مشترك حميم يعبر عن كل هذه الحالة.....كانت موسيقى ( الباجاتا ) الحميمية و المتمردة ردة فعل، و تعبير عن المهمشين في المجتمع الدومنيكي.
كانت هذه الأغاني قد رفضت من قبل الطبقات المترفة و الغنية في الدومنيكان ، منعت من البث في الأجهزة الرسمية باعتبارها تعبر عن السوقة و دهماء المجتمع و تخدش الذوق و الحياء العام، كما أصبح مكانها حانات الشرب، القعدات الخاصة و الأماكن التي لا يرتادها علية القوم.
أنا لست من المؤمنين بنظرية ( الغناء الهابط ) و لا احاكم الغناء و الموسيقى أخلاقيا، بل انظر اليه فنيا أتذوقه ، أطرب للكلمات الشجية و الموسيقى العذبة و السمحة كما لا أسأل عن نشأتها، بالإضافة الى انى أومن بأن لكل جيل تذوقه ، سماعه ،وجدانه المختلف التشكيل و اذنه الموسيقية.
قبل كتابة هذا المقال بأسبوع كنت أتحدث مع احدى بناتي اريد أن أعرض عليها اغنية من الغنا الذى اشاهده و أسمعه ليلا ، و كان رأى فيها سلبيا ، و تمهيدا لحديثي شغلت الأغنية التي أريد الحديث عنها لتقوم بسماعها . لدهشتي انتزعت منى التلفون و عندما سألتها ماذا تفعل ....قالت لي أرسلت هذه الأغنية الجميلة الى موقعي ....لم اتمم الموضوع الذى بدأته معها و تذكرت المثل الدارفورى الذى يقول ( أم جركم ما بتآكل خريفين ) ! ...هذا جيل له غناه و موسيقاه التي تتماشى مع زمنه و تذوقه.
نعود مرة أخرى الى ( الباجاتا ) و ظاهرة الغناء السوداني المنتشرة اليوم بأداء الفنانين الذين شردتهم الحرب و العنف المنتشر في السودان. اغنية ( الباجاتا ) نالت الاحترام و التقدير عندما تم تطويرها بواسطة فرقة ( افنتورا ) مع المغنى ( روميو سانتوس ) و تواصل نجاحها عندما نال الفنان ( خوان لويس غيرا ) جائزة الغرامي الأمريكية عن اغنيته ( باجاتا روزا ) فدخلت نطاق العالمية و صارت الموسيقى ( الباجاتا ) جزء من الثقافة و التراث الدومنيكي و العالمي بعد أن رفضت و اضطهدت ردحا من الزمن.
أخيرا أتسأل و أنا محتارا .....هل يخرج الوسط الفني في السودان من رماد الحرب، التشرد و الاضطهاد و أغنيات التشرذم و الشتات ، نمط فنى جديد يعيد مجدا قديما ، يقود خطاهوا ناس حسن عطية ، احمد المصطفى ،الكاشف ، الكابلي ، وردى ، محمد الأمين ، زيدان أبراهيم و مصطفى سيد أحمد ؟! ....بكلمات أخر هل بالإمكان انبثاق أو ولادة ( باجاتا ) مشابهة كما حدث في الدومنيكان، بعد حمل متعثر و عذاب طويل ؟!!!
عدنان زاهر
أغسطس 2025
مفردات داخل المقال
الباجاتا : موسيقى من الدومنيكان
الزنق : غناء سوداني حديث
مغرزة :من غرز بمعنى أدخل أو طعن، في غناء الزنق السوداني تفهم الكلمة في سياق استخدامها
كتمه : شدة الحر - الصمت
مراجع
جميناى – ذكاء اصطناعي
مقابلات في التلفزيون المصري و مقالات في النت حول غنا ( الزنق )
سماع لعدة كبير من فنانات و فنايين يغنون ( الزنق ) السوداني
تعليقات