تداعيات حنينه من الماضي البعيد !
- Adnan Zahir
- 12 ديسمبر 2024
- 4 دقائق قراءة
فرضت علينا عزلة ( كرونا ) و حظر التجوال الصحي المعلن في تورنتو في العام 2020 تغييرا كبيرا في نمط حياتنا ، فقد كنت أحرص على القيام صباحا و المشي لمسافة خمسه ، أربع كيلومترات أو قل ما تيسر في الغابة التي بقربنا ، مع ذلك الحظر فقد استوجب على أن أقوم بذلك التمرين منزليا و من خلال ( الكريدور ) أو الممشى الطويل الذى به شقتي في الطابق العاشر. لكى أعرف عدد الخطوات التي تعادل واحد كيلو لجأت الى السيد " غوغل " فوجدت أن 1428 خطوة تساوى واحد كيلو، فقارنت ذلك بالخطوات التي أمشيها في " الكريدور " ذاهبا و إيابا ، و كانت تعادل ستين خطوة (فقرضت ) أن تكون خطواتي اليومية ما تعادل اثنين كيلو أو أزيد حسب الحالة.
تنظم تلك الخطوات " المزيكا " السودانية التي أسمعها من خلال ( الهد فون ) و يتحول المشي في كثير من الحالات الى رقص خفيف يتناغم مع الموسيقى، و كنت أحرص الا يشاهدني احد من جيراني في الشقتين بجواري حتى لا يظنوا انه قد أصابني مس من الجنون.....حكيت لأحد الأصدقاء ما أقوم بفعله....ضحك ثم قال لي ( الجابرك على كده شنو !! و الله دي مانديلا صاحب الاسم في سجنه ما فكر فيها ) !!
أها قبل يومين نزل الجليد في مدينتنا تورنتو مع برد قارص منذرا بشتاء مخيف و طويل، قلت لنفسي أرجع لنظام " الكرونا " و ممارسة نشاطي من خلال ( الكريدور )، ارتديت ملابس الرياضة و بدأت في المشي ( الكريدورى ) الذى اتقنت فنونه ، و كانت ترافقه أغنية ( كفاية مزاح ) لوليم أندرية و أداء الفنانة د منال بدرالدين مع هجين لأغنية ( في الخوجلاب ) أداء الفنان محمود صداح تصاحبه نقرات بادى الطفيفة على آلة الرق بالإضافة الى دندنات السنى و هو يغرد ب ( يا ززز زاهية ) ، فوجدت نفسى دون وعى متجولا مساءا في أزقة أمدرمان و ليالي الخرطوم الماهلة و الاليفة ، ما ضاعف ذلك الحنين المباغت أن الزمن كان ميعاد عودتي السنوية للسودان التي لا أعرف هل تعود مرة أخرى !...تدفقت الذكريات كأمطار الخريف كل ما حاولت كبتها زاد تدفقها....... يبدوا أن برق الذكريات كان " عبادي " !
ثلاث ذكريات لا رابط بينهما ظلت تدور في رأسي بشكل حلزوني، تختفى لبرهة ثم تعاود الحضور و الدوران بشكل رتيب....
- حفلات الفريق، كان المسؤول الأول عن اكتشافها و تبليغ الشلة (ع ) ،كان طويلا ....رهيف و ممشوق القوام له قدرة عجيبة على قطع المسافات. كان يبدأ مشوار البحث عن الحفلات " المكربة " من شارع العرضة و يتجه جنوبا.....العرضة ، الأمراء ، العباسية، بانت ثم الموردة لا أحد يكلفه بهذا البحث. في الأمكنة التي يزورها راجلا كانت له شلل و لا - أريد أن أقول مخبرين أو بصاصين كما يقول أهل الشام - تزوده بأخبار الحفلات .
كانت الحفلات تُقيم للذهاب اليها، وفقا معايير محددة بدقة و اجتهاد من الشلة و هي : من هو الفنان أو المغنى ، جمال " البنات " في المنطقة ثم كرم و اريحية ناس بيت الفرح أو " اللعبة " . الفنانين الذين يتسيدون المشهد أو أول القائمة و بالتالي تفضيلنا ، كانوا هم على التوالي زيدان إبراهيم ود المنطقة ،عثمان حسين ، بادى محمد الطيب ، عوض الكريم عبدالله، شرحبيل أحمد و بالطبع أبراهيم عوض.
عندما يكمل (ع) بحثه كان يأتي الى مكان تجمع الشلة منتصف النهار قبل مواعيد الغداء في حديقة الريفيرا، و نحن جالسين تحت شجرها الظليل نجر النم ، بعد عرض معلوماته تحدد الشلة الفنان الذى يجب أن نذهب لحضور حفلته، عند تزامن عدد من الفنانين في الحفلات الموجودة و المعروضة أمامنا ، كنا على الدوام نفضل زيدان خاصة عندما يغنى في العباسية أو الموردة. كنا و نحن عائدين ( أنصاص ) الليالي من تلك الحفلات، نتقوت من الخبز الطازج الذى يخبز في الأفران البلدية، و الخارج لتوه لرواد الصباح الباكر ....كانت رائحة ذلك الخبز الشهي في تلك اللحظة تعم ممشى الرياضة ( الكاريدورى ) !
- ثلاث شجرات، كنت أحرص على زيارتهما في الصباح الباكر و أكل ثمارها و هم : شجرة القرض أو السنط ، اللالوبه أو الهجليح و من ثم شجرة الحنبك.
شجرة ( القرض )، كانت تنمو في غابة في الجانب الجنوبي من حديقة " الريفيرا " قبل الاعتداء عليها من قبل طفيلي الإنقاذ و ازالتها بغرض بيعها، كنت أذهب اليها في الصباح الباكر لأكل صمغها الهش حلو الطعم . كنت عندما آكل ( الكعكول ) او الصمغ النامي تقوم الشجرة بإفراز صمغ آخر ليحل محله، أقوم بأكله في اليوم التالي . الشجرة أيضا تنبت القرض الذى يستخدم في السودان كعلاج بلدى مجرب. كان لمعظم أطفال الحلة شجرة قرض تخصه و لا يمكن لأحد الأطفال الآخرين القرب منها أو الاعتداء عليها ...." كود " أخلاقي !
الشجرة الأخرى هي شجرة ( لالوب )، ضخمة أو هجليج كانت تنبت في مكان ( كلية القران ) الحالية بأمدرمان و تظلل بفروعها قبر أو مسيد القائد المهدوى المشهور ( الزاكي طمل ) كما يقول أهل الحى كبار السن، الذى مات " مطوبا " في سجن الساير عندما غضب عليه الخليفة عبدالله نتيجة وشاية من شقيقه يعقوب. كانت ثمرة تلك الشجرة تحاكى العسل زمن نضوجها، و كنت أيضا أقوم بالقبض على حشرة " الكدندار البقارى " ذات اللون البنى الفاتح و الحجم الكبير التي تأتى لأكل ثمار اللالوب للعب بها.
أما الشجرة الثالثة فهي شجرة ( الحنبك )، التي تنمو في الحفر جنوب مدرسة أمدرمان الثانوية بنات، كانت عندما تنمو ثمارها أتابع النمو و المراقبة الدقيقة للثمار كل صباح خوف الاعتداء عليها من قبل الأطفال الآخرين.....مذاق ثمر شجرة الحنبك كان متفردا و لم أجد لها طعما شبيها له في تورنتو، غير ثمرة ( البرسمون ) ذات اللون البنى و الأصفر التي تنمو في الصين و تستورد الى كندا.
- الصخور، على شاطئ النيل شرق مبنى الإذاعة والتلفزيون ....تعلمت في هذا الشاطئ صيد السمك الذى أدمنته بعد ذلك ....هذا المكان الصخري كانت " مضربا " ممتازا لسمك البلطي و قد كنت أذهب مع شقيقي أنور و هلال للصيد هنالك ، قد علماني صيد السمك و العوم أو السباحة في " النمر " التي تقع بالقرب من الصخور....ظل هذا المكان و لفترة طويلة أهم مركز لصيد البلطي قبل الاعتداء على شاطئ النيل زمن حكم الكيزان. تداعت في ذهني أسماء أشهر صيادين أمدرمان ذلك الزمن..... حسن شحرر ، استرزقنا.....الخ ثم أبو الجوخ الذى يسكن خور الإذاعة !!
تحول فجأة الممشى الذى أمارس به الرياضة و تحت انغام كروان الغنا السوداني مصطفى السنى و أغنيته ( دمعى الأتشتت ...غلب اللقاط )...... الى حفلة امدرمانية على شاطئ النيل الممتد من كبرى الحديد ، " بر أبو البتول " و حتى شواطئ أبوروف !
عدنان زاهر
ديسمبر 2024
Comments